الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلَنُذيقَنَّهُمْ} أي: أهل مكة: {منَ الْعَذَاب الْأَدْنَى} أي: عذاب الدنيا، من الجدب، والقتل، والأسر: {دُونَ الْعَذَاب الْأَكْبَر} يعني عذاب الآخرة: {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} أي يتوبون عن الكفر أي: يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى، قبل الرين بكثافة الحجاب: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن ذُكّرَ بآيَات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي: جحدها وكفر بها: {إنَّا منَ الْمُجْرمينَ مُنتَقمُونَ} أي: بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ} أي: التوراة: {فَلَا تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَائه} أي: لقاء الكتاب الذي هو القرآن، وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم، والمراد غيره على طريق الاستخدام، أو إرادة العهد، أو تقدير مضاف، أي: تلقي مثله، أي: فلا تكن في مرية من كونه وحيًا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيّناه من الوحي مثل ما لقيناك، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.ونهيُه صلى الله عليه وسلم عن الشك، المقصود به نهي أمته، والتعريض بمن صدر منه مثله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَني إسْرَائيلَ} أي: من الضلالة: {وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا} أي: قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا: {لَمَّا صَبَرُوا} أي: على العمل به، والاعتصام بأوامره: {وَكَانُوا بآيَاتنَا يُوقنُونَ} أي: يصدقون أشد التصديق وأبلغه. والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه، هدىً لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية.ويؤخذ من فحوى الآية، أن بني إسرائيل لَمّا نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان، فغيّروا وبدّلوا، سُلبُوا ذلك المقام، وأَديل عليهم انتقامًا منهم؛ وتلك سنته تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيّرُ مَا بقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بأَنْفُسهمْ} [الرعد: 11]، ففي طي هذا الترغيب، ترهيبٌ وأي ترهيبٍ.{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ} أي: يقضي: {بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَة فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ} أي: فيميز الحق من الباطل، بتمييز المحق من المبطل: {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} أي: يتبين لكفار مكة: {كَمْ أَهْلَكْنَا من قَبْلهم مّنَ الْقُرُون} أي: الماضية بعذاب الاستئصال: {يَمْشُونَ في مَسَاكنهمْ} أي: منازلهم، كمنازل قوم شعيب، وهود، وصالح، ولوط عليهم السلام، فلا يرون فيها أحدًا ممن كان يعمرها ويسكنها، ذهبوا كأن لم يغنوا فيها؛ كما قال: {فَتلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاويَةً بمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، {إنَّ في ذَلكَ} أي: فبما فعلنا بهم: {لَآيَاتٍ} أي: عبرًا، ومواعظ، ودلائل متناظرة: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} أي: أخبار من تقدم، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل، وبغيهم الفساد في الأرض، فيحملهم ذلك على الإيمان.{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إلَى الْأَرْض الْجُرُز} وهي التي جزر نباتها، أي: قطع: {فَنُخْرجُ به زَرْعًا تَأْكُلُ منْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} يعني العشب والثمار والبقول: {أَفَلَا يُبْصرُونَ} أي: فيستدلون به على كمال قدرته، ووجوب انفراده بالإلهية. وهذا كآية: {فَلْيَنْظُر الْإنْسَان إلَى طَعَامه أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 24- 25] الآية.{وَيَقُولُونَ} أي: كفار مكة: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أي: الانتصار علينا، استعجال لوقوع البأس الرباني عليهم، الذي وعدوا به، واستبعاد له {إن كُنتُمْ صَادقينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْح لَا يَنفَعُ الَّذينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} لحلول ما يغشي الأبصار، ويعمي البصائر، وظهور منار الإيمان، وزهوق الفريق الكافر.قال ابن كثير: أي: إذا حل بكم بأس الله، وسخطه، وغضبه في الدنيا والآخرة، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم، ولا هم ينظرون، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالْبَيّنَات فَرحُوا بمَا عنْدَهُمْ منَ الْعلْم} [غافر: 83] الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتحَ مكة، فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح، قد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إسلامَ الطلقاء، وقد كانوا قريبًا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْح لَا يَنفَعُ الَّذينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ} وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل، كقوله: {فَافْتَحْ بَيْني وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء: 118]، وكقوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالْحَقّ} [سبأ: 26] الآية.، وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ} [إبراهيم: 15]، وقال تعالى: {إنْ تَسْتَفْتحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19].{فَأَعْرضْ عَنْهُمْ} أي: عن المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك: {وَانتَظرْ} أي: النصرة عليهم، فإن الله سينجز لك ما وعدك، إنه لا يخلف الميعاد: {إنَّهُم مُّنتَظرُونَ} أي: ما في نفوسهم، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ الْمَنُون} [الطور: 30]، {وَيَتَرَبَّصُ بكُمُ الدَّوَائرَ} [التوبة: 98]، أي: وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى، وأليم عذابه بهم. اهـ.
|